منذ أكثر من عامٍ ونصفٍ، يسير لبنان بخطىً متسارعة نحو الانهيار. البلد ليس على حافّة الانهيار، بل في خضمّه واقتصاده ينهار شيئاً فشيئاً. فيلمٌ مأساويٌ بشعٌ نعرف قصته، ونعيشه اليوم، ونترقّب نهايته المعروفة أصلاً من دون أن يُقدم أحدٌ على رفع مقبض ذراع الفرامل الذي قد يوقفه. المقصود بـ”أحد” هنا المعنيّون المسؤولون عنّا وعن اقتصادنا ولقمة عيشنا وحياتنا. لكن للأسف، هذا الـ”أحد” يعيش اضطراباً يسمى الانفصال عن الواقع، يلخّصه الاختصاصيون بالقول: “أنا أراني من الخارج”. هم فعلاً كذلك، منفصلون عن الواقع اللّبناني، وبينما السفينة تغرق، يعزفون ألحان البيانات والتصريحات ويختلفون حول جنس الملائكة.
هكذا يمكن توصيف الجمود الحكومي وسط الزلزال الذي يضرب البلاد، لتتكرّر محاولة كسر الجمود خلال هذا الأسبوع الذي سيشهد تحرّكاً جديداً للمدير العام للأمن العام اللّواء عباس إبراهيم كوسيط على خط بعبدا – بيت الوسط، محوره حقيبة الدّاخلية وفق ما أشارت مصادر خاصة لـ”أحوال”، وبالفعل بدأ ابراهيم تحرّكه من بكركي بزيارته البطريرك بشارة الراعي اليوم..
فالعقدة اليوم ليست عدد الوزراء في الحكومة، ولا الثلث الضامن فيها، بعد أن أكّد رئيس الجمهورية ميشال عون أكثر من مرّة عدم الوقوف عند هذه النّقاط، وبل تجاوُزها، ليطالب بأن تكون حقيبة الداخلية من حصة رئاسة الجمهورية وفق الصيغة التي تمّ الاتفاق عليها سابقاً، وكل ما عدا ذلك يمكن التباحث فيه وحلّ عقده.
كل المعطيات تُظهر تسهيلاً واضحاً لا لبس فيه من قِبل الرئيس عون، إلّا أن الرئيس المكلّف سعد الحريري يحتجز الحكومة في جعبته ويدور بها من بلدٍ إلى آخرٍ في تعطيل واضحٍ وصريحٍ لأيّ مسعى يقرّب وجهات النّظر ويحقق الحدّ الأدنى من مطالب كلِّ طرفٍ.
في وقتٍ يغلّي فيه الشارع اللبناني ويتشاجر المواطنون من أجل الحصول على المنتجات الغذائية في المحال التجارية، وبعد أن وافق الرئيس الحريري مهمّة التكليف، حمل الحكومة ورقةً يحتجزها، يرفض تأليفها، ولا يسلّمها لغيره في ابتزازٍ سياسيٍّ غير مشروعٍ في ظل الأوضاع الاقتصادية الخانقة. وبدل أن يتوجّه بالحديث إلى لبنانيين ضاقت بهم كلّ سبل العيش ويتضامن معهم، يغرّد رئيس الحكومة المكلّف من أبو ظبي متضامناً مع السعودية وقيادتها بعد عملية توازن الرّدع السادسة التي قامت بها القوّات المسلّحة اليمنيّة.
فالحريري يطرح ورقة الحكومة، لا في بازار السجال الداخلي فقط، لتصفية حساباته مع الأفرقاء السياسيين ولا سيّما فريق العهد، بل وفي بازار الصراع الإقليمي السعودي-الإيراني. وليس أدلّ على ذلك من فتحه اشتباكاً غير مبرّر مع حزب الله حين قال إنّه، أي الحريري، وعلى عكس حزب الله المنتظر دائماً قراره من إيران، لا ينتظر رضى أيّ طرفٍ خارجيٍّ لتشكيل الحكومة، لا السعودية ولا غيرها، مضيفاً أنّ الحزب من بين الأطراف المشاركة في محاولة رمي المسؤولية عليه. والطّريف هنا أنّ الحريري قال ما قاله بينما هو في الإمارات يطرق باب المملكة السعودية من دون جوابٍ ويسعى لفتح كوّةٍ في حائطٍ بنته في وجهه لا دلالة على أنّها قد تزيله قريباً، ولا سيما أنّها مشغولة بملفاتٍ أهم بالنسبة لها.
بالإضافة إلى انتظار ضوءٍ أخضر سعوديٍّ لن يحصل عليه لاستحالة قدرته على استثناء مكوّن لبنانيٍّ أساسيّ من التركيبة الحكومية، يرى مراقبون أنّ الحريري لا يريد تشكيل الحكومة الآن، بل بعد رفع الدّعم كي لا يكون في قمرة القيادة عندما تصطدم السفينة بجبل الجليد الذي سيغرقها بمن فيها. فالانفجار الشعبي الأكبر يُتوقّع أن يحصل بعد رفع الدّعم، وما نراه اليوم في الشارع والسوبرماركت وأمام محطات المحروقات سيتضاعف كمّاً وحدّةً، ومن الطبيعي أن رئيس الحكومة الذي استقال أمام ضغط الشارع سابقاً لن يجازف مجدّداً، خاصةً وأنّها قد تكون الحكومة (بما فيها وزارة الداخلية) التي ستشرف على الانتخابات النيابية المقبلة في حال جرت في موعدها عام 2022. ومن الطبيعي أن يسعى الحريري الذي فقد الكثير على الساحتين الداخلية والخارجية إلى أن يظهر كالمخلّص الذي سينقذ لبنان ويستحصل على الدّعم الدّولي بعد الانفجار الاقتصادي الاجتماعي.
آلاء ترشيشي